.

في المكتبات جديد الشاعر حسين القاصد"القصيدة الإعلامية في الشعر العراقي الحديث" و النقد الثقافي ريادة وتنظير وتطبيق- العراق رائدا

.....

للحصول على اصدارات حسين القاصد ...جميع اصداراته في مكتبة الحنش  و  مكتبة  القاموسي في مكتبة المتنبي

الأربعاء، 13 يناير 2010

الرثاء في الشعر العراقي المعاصر : قصيدة (سادن الماء) للشاعر حسين القاصد



الرثاء في الشعر العراقي المعاصر : قصيدة (سادن الماء) للشاعر حسين القاصد



رابط قصيدة سادن الماء الى الامام العباس ( ع )

«إيه أبانا (نانا)
إنّ تلك المدينة قد حوّلت إلى رميم
وملأ شعبها، وليس كسر الفخّار، كل محلاتها
وتصدعت جدرانها والناس يئنون
في أبوابها العالية، التي كانوا فيها يتنـزهون
رميت جثث الموتى
وفي شوارعها المشجرة، حيث كانت تُنصب الولائم
استلقوا متناثرين
وفي كل طرقاتها التي كانوا فيها يتنـزهون
سجت جثث الموتى
وفي ميادينها حيث كانت تقام الاحتفالات
استلقى البشر بالأكوام
(أور) التي أكل الجوع أقوياءها وضعفاءها
وكوت النيران الآباء والأمهات الذين لم يبرحوا منازلهم
والأطفال المضطجعون في أحضان أمهاتهم
كالأسماك حملتهم المياه بعيداً
وفي المدينة هجرت الزوجة وهجُر الابن
وانتثرت الممتلكات في كلّ جانب
أوّاه يا (نانا)
لقد دُمّرت (أور)
وشرّد أهلها..»

هذه قصيدة ترثي (أور) المدينة العراقية العظيمة التي أحرقها العيلاميون بعد أن وصلوا أسوارها التي بناها (أور - نمو) عالية (كعلو الجبل المضيء) وبعد انقضاء عدة سنين، عندما أصبحت (أور) مدينة مزدهرة مرّة أخرى كانت فاجعة دمارها تُذكر بالأسى وترثى بألم من قبل السومريين الذين اعتبروا خرابها كارثة وطنية.
.. وهكذا يمتد على أرض الرافدين، ومنذ فجر التاريخ نشيجٌ دامٍ متواصل، وحبل أسىً ودموع، ورثاء غليظ يصل قلوب ووجدان الأبناء الممزقة في عام 2007 بأرواح الأجداد المثكولة التي كتبت بمداد انسحاقها هذه القصيدة قبل (4000سنة) في لونيها المفضلّين هما: الأحمر والأسود، وليس على طريقة (ستندال) في روايته الشهيرة بطبيعة الحال. بلاد كانت الآلهة فيها تبكي مشفقة، وهي تخلق الإنسان الأول فيها وتتساءل: في أي أرض سألقيك؟ وأيّ عذاب ستتحمل؟ وفي أيّ جحيم ستصطلي؟ .ولـيس غريبـاً أنّ شـعراء العـراق المقتدرين قد حملوا الراية، راية الرثاء، وصانوا الأمانة بمثابرة وحماسة، ماداموا يقفون محطّمي النفوس ومحبطين وهم يرسلون النظرة نفسها التي نظر فيها الشاعر السومري القديم إلى مدينته (أور) وهو يسطر بدموعه مرثيته الشهيرة تلك.
ومن بين الشعراء العراقيين الذين حملوا راية الرثاء، وصانوا أمانة الخراب الشاعر «حسين القاصد» في قصائد كثيرة ضمّتها مجموعتاه الشعريتان (حديقة الأجوبة وأهزوجة الليمون). وفي قصائده الأخيرة المفردة وهي كثيرة، لأن «القاصد» من أكثر مجايليه غزارة وغنىً ورصانة امتلاءً، سأتوقف هنا عند آخر قصائده - وهي ليست الأخيرة قطعاً - وهي قصيدة (سادن الماء) والتي أهداها إلى الإمام العبّاس (عليه السلام). وبين العنوان والإهداء يؤسّس «القاصد» مفارقة محكمة وذكية حيث نتذكـر - تاريخياً - أن محاولات الإمام في جلب الماء إلى عطاش الطف قد أجهضت كلّها، ولكنه يبقى - واقعاً خلودياً ووفق رؤية الشاعر الكونية - سادن الماء.. ماء الموقف الاعتباري والوفاء الاستشهادي اللذان جعلاه يرسخ في ذاكرتنا الجمعية كأنموذج متفرّد لخذلان لم تشهد مثله مراثي أرض سومر كلّها وهي الأكثر كماً في تاريخ العالم.. خذلان الماء.. وانخذال «الفرات» في لحظات حاسمات مدوّيات جعل دوّيها الرهيب الشهيد عطشاً يذكر كسادن لماء الآمال المحبطة ويباس الضمائر الميتة كلّما ذكر الماء والعطش:
«بدأتْ وكان الموت ُ الفك
ومضتْ وظلّ الموت خلفك
ونزفت ..
ثم نزفت
ثم نزفت
ثم
... فكنت نزفك
ويبدو من خلال المتابعة التحليلية لقصائد «القاصد» - لاحظ الجناس النسبي بين القصائد و«القاصد» - التي كتبها في الرثاء ومنها هذه القصيدة؛ إنها محكومة بنـزوع ملتهب لتحقيق الديمومة وإطفاء نيران قلق الموت.. وهو نزوع متأصل الجذور في تربة الروح العراقية حيث كانت أول محاولة - ليس على ضفة الأرض حسب بل في تاريخ البشرية كلّها - لجعل الموت خلف ظهر وعي الإنسان هو السعي البائس والجسور في الوقت نفسه الذي قام به التعرّضي العظيم «جلجامش» الذي زرع بذرة التمرّد على حكم الآلهة التي حكمت لنفسها بالخلود، وعلى الإنسان بالفناء، كما قالت (سيدوري - الشباب الدائم) صاحبة الحانة لجلجامش لتثنيه عن عزمه. هذا العزم الذي سمّم أرواح أبناء الرافدين فباتوا يُسقطون نزوعهم المدّمر هذا على نماذجهم الخلودية: يكفيك أن حملوا السيوف ليقتلوك فكنت سيفك
هل كنت نزفك؟
كنت سيفك؟
كنت أنت؟
وكنت وصفك
وليس اعتباطياً أن يزاوج «القاصد»بين الماء والدم والجرف والنـزف مادمنا قد قرّرنا أن الأعماق البعيدة.. البعيدة جداً.. والغائرة في تربة اللاشعور الجمعي تماهي بين الماء والدم الذي خلق منه الإنسان العراقي الأول - راجع أسطورة الخليقة البابلية التي تقرر أن العراقي خلق من طين ودم ، أمّا أسطورة الخليقة السومرية فستفجؤك بأمر أكثر إدهاشاً وإثارة للصدمة حين تشير إلى أن العراقي الأول - آدم الأسطوري - قد خلق من دم فقط!!-
«النهر جرفك وهو كفك..
كيف كفّك صار جرفك
ومدّدت طولك بانسكاب..
كنت تعلم كيف تُّسفك
هل كنت تسفك؟
كيف تسفك؟
كنت تسقي الأرض نصفك
ويهمني هنا أن ألفت نظر القارئ إلى ظاهرة في غاية الحساسية وهو أنّ الشاعر قد استخدم (40) أربعين مفردة تنطوي على حرف (الفاء) في قصيدة تتكون من (19) تسعة عشر بيتاً فقط. وقد جاء استخدام هذا الحرف وفق «حتم لاشعوري» لكن ليس على طريقة البنيويين القسرّية.- وهؤلاء يدينون لـ "دى سوسير" بقوانينهم.. ولكنني أتساءل عرضياً كيف يجوز «لسوسير» أن يضع ثلاثة قوانين للّغة وهو يعتبر العلامة اللغوية علامة اعتباطية؟ هل يجوز وضع قانون لشيء اعتباطي( راجع كتاب العلامة العراقي الراحل ( عالم سبيط) : ( الحل القصدي للغة )؟ وحرف الفاء في معانيه وإيحاءاته النفسيّة يعني اللفظ ، لفظ الشيء أو طرحه ، والتأفف والزفير.. والنـزف الذي هو شقيق العطش.. لقد طفحت في القصيدة مفردات تفحّ بحرقة - والفحيح فيه «فاء» من جديد
- مثل: النـزف.. السفك.. الحتف.. الطواف.. السيوف.. التفخيخ.. النفس..إلخ..
«ليظلّ نصفك للفرات
فما يزال يعيش طفّك
إيْ ما يزال..
وذاك أنت مفخّخاً
تجتاح حتفك
وتفتش الشهداء عن نفسٍ ظميّ ودّ رشفك»
وأنت تلاحظ - أيها القارئ - أنّ حرف «الفاء» يتكرّر هنا ثماني مرّات في ثلاثة أبيات فقط.. إنّ الحتم اللاشعوري الذي نتحدث عنه هو «إطار - Context» يصوغه الاحتدام الفائق بالموضوعة التي تشعل لحظة التجلّي والانفعال الصوفي بالمشهد.. المشهد المثير والمحفّز.. ولكن هذا الحتم خلاّق وباهر في خياراته.. لاحظ أنّ الإنسان كلّما تكلّم يطرح أشياء تفوق ما يعرفه.. فمن أين يأتي هذا الفارق؟..
يأتي من اللاّشعور الذي يوفّر التربة لتكاثر اللّغة ومعانيها.. لاحظ أيضاً أن شرح بيت الشعر يكون دائماً أطول من البيت نفسه.. مثلما يكون تفسير الحلم أطول من الحلم نفسه.. لكن حلم «القاصد» في قصيدته هذه متطاول وفي غاية الضراوة الواقعية في حين أن الحلم يوصف بأنه جنون وجيز.. وإلاّ كيف سيحمل الشهيد - سادن الماء، يديه بلا يدين ؟ :
«احمل يديك ..
لأنّ صدق دموعنا يحتاج عطفك
احمل يديك بلا يدين
وأطعم الأرواح لهفك
نهران يفترقان عن سفح
أكان الماء كتفك؟
ولكن هذا ما حصل فعلياً في تفصيلات الموت الواقعي المنقول عن الشهيد - سادن الماء - الذي لم يرتشف من الماء شيئاً.. وإذا عدنا إلى الحتم اللغوي اللاشعوري الخلاّق فإن مقابلة حازمة بين معاني الكفّ - وراجع لسان العرب لابن منظور - ستريك التضاد الموجع الذي تخلقه الإيحاءات التي تتعايش بخلاف آسر في أحشاء المفردة الواحدة.. فالكف - وشهيدنا المهدى إليه قطيع الكفين وممزق الجسد والروح - التي أخرها «حسين القاصد » بوعي لمسافة أربعة أبيات - بقصيدته واضحة، هي التي تروي وتكفّ في الوقت نفسه.. ولاحظ المقابلة غير المباشرة بين : «النهر جرفك وهو كفك..» و«كفّاك قرآنان بسمل بالمياه لكي نلّفك..»: هنا تتمرأى على صفحة مياه الروح المزاوجة العميقة الباذخة بين معاني الموت ومعاني الحياة.. هذه المزاوجة تُشعل شعوراً مريراً بالذنب - وبالمناسبة فالعراقي ليس حيواناً ناطقاً أو اجتماعياً أو سياسياً والأخيرة لعلي الوردي مستثمرة من أرسطو بلا إعلان مباشر - لكنه أي العراقي «حيوان مذنب»..
«كفاك قرآنان
بسملْ بالمياه لكي نلفك
بدموعنا ونطوف سبعاً
ثم نطلب منك لطفك
وهذا الشعور الموجع بالذنب «يُصعّد» بشراسة ليخلق أروع الصور الشعرية «النظيفة» والماحقة في الوقت نفسه... فالأنموذج الذي قطعنا كفيّه - وجدانياً وتخيّلاً - يصبح مصدر تعزيز جمعي للنرجسيّة الموهومة ولكن الضرورية للبقاء «النفسي» ومداواة الجراح الباهظة والتكفير عن الآثام.. وينبغي أن نتذكّر أن كفّ الإمام القطيع المنتصّب فوق ذروة منارته هو - أصلاً - كفّ تموز - الإله دموزي - الذي لم تستطع شياطين «أيريشكيجال» إلهة العالم الأسفل - ويا للغرابة فهي شقيقة «عشتار» إلهة الخصب والجنس والنماء - أن تبتلعه مثلما عجزت كل المحاولات السياسية العنيفة للحكومات العراقية المتعاقبة عن اجتثاث ممارسة المراسم العاشورائية من روح الشعب العراقي.. أقول : إنّ كف الشهيد العطشى، شهيد الماء، الكاف والمكفوف، يمكن أن توسّع، لتصبح رؤيا كونية، على يــدي الشــاعر «القاصد» وهذه هي مهمة الشعر وهذا هو واجب الشاعر.. الشاعر الذي لا يستذكر ويوظّف ذكريات الطف لمنافع خلودية مهمة حسب ، بل يستثمر هذا الفعل الرمزي وهو ملتحم بواقع العراق المحطم العاصف الذي تعدّت شدائده الفاجعات كلّ طف وكل وصف:
«يا ربّ آلام الجنوبيين
حين الجوع ما انفك
يخشى من النذر
الذي جعل
الجنوب يظلّ ضيفك
كنّا إذا ما أينعت
أدغالهم نحتاج عصفك
ولأنّ قصيدة الرثاء هذه تتناول المآثر الملحمية لشهيد اختار الموت عطشاً، ولأنّ الشاعر يصوغ أبياتها وفق رؤيا مسبقة محكمة فقد تسيدت مفردة الماء وما يرتبط بها ويشتق منها من مفردات ومكوّنات ساحة القصيدة أيضاً «النهر.. الجرف، السقي، الفرات، الظمأ، الدموع.. الرشف..إلخ..».. وكنتيجة للرؤيا المحكمة نفسها فقد كانت مفردة: «الكف» من المفردات المركزية التي تعمل كحلقة وصل حاسمة في تركيز انتباهة القارئ وتعزيز وحدة القصيدة :
«النهر جرفك وهو كفك... البيت الخامس
احمل يديك.. البيت الحادي عشر
احمل يديك بلا يدين.. البيت الثاني عشر
كفاك قرآنان.. البيت الرابع عشر...»
ومؤسساً أداءه على ركائز رؤياه الحاكمة يختم القاصد قصيدته/ مرثيته بالكف التي هي رمز لشهادة وموقف:
«عذراً هي الكلمات
دارت حولها
لتبوس كفّك
وقد اختار الشاعر بذكاء ودراية وزناً عروضياً جارحاً يصلح لأن يجعل القصيدة أنموذجاً للنعي والغناء الموجع وقد لحناها وغنيناها - وكان الحداء بها يذكّر من يستمع بأداء مقتل الحسين بن علي - عليهما السلام الذي كنا نسمعه في عاشوراء. وتعزيزاً لوحدة القصيدة العضوية والنفسية ولإيقاعها الحركي فقد كانت هناك وقفتان تساؤليتان بصيغة المخاطب مرسومتان لغوياً وفنياً بحنكة:
1 - هل كنت نزفك؟
كنت سيفك؟
كنت أنت؟
وكنت وصفك (البيت الرابع).
2 - هل كنت تُسفك؟
كيف تسفك؟
كنت تسقي الأرض نصفك (البيت السابع)
ويبرع «حسين القاصد» في الكثير من قصائده في استخدام مفردات عامّية أو مفردات فصيحة يطوعها باستخدام عامي. في قصيدته «عندما يكذب الخبز»مثلا التي كرمنا باهدائها الينا بعد مغادرة بغداد المحروسة يقول:
«(الله بالخير) الجميلة هل ترددها هناك ومن بصوتك يطربُ
والآن عذراً يا (أغاتي) كلهم علموا بصدقك لا يطال فكذبوا
والأمثلة تطول لكن انظر إلى ما يقوله في البيت التاسع من هذه المرثية:
«(إيْ) ما يزال.. وذاك أنت مفخخاً تجتاح حتفك»
فصحيج أن " إي " هي حرف جواب بمعنى نعم لكنها أهملت في الاستخدام الشعري الفصيح وصارت تعد من اللغة العامية .. فجاء حسين القاصد ليضعها في موضعها الصحيح مستثمرا إيحاءات استخدامها العامي في مكان باهر ومحتدم ..