.

في المكتبات جديد الشاعر حسين القاصد"القصيدة الإعلامية في الشعر العراقي الحديث" و النقد الثقافي ريادة وتنظير وتطبيق- العراق رائدا

.....

للحصول على اصدارات حسين القاصد ...جميع اصداراته في مكتبة الحنش  و  مكتبة  القاموسي في مكتبة المتنبي

الأربعاء، 2 مارس 2011

ليمون القاصد / من مقالات العلامة الدكتور محمد حسين الاعرجي


من مقالات العلامة الدكتور محمد حسين الاعرجي (ليمون القاصد)



شيءٌ مفرحٌ أن أقرأ مجموعةً مثل مجموعة القاصد " أهزوجة الليمون " فقد سبق لي أن قرأتها قبل أكثر من عام، وأعدتُ قراءتها قبل أيام فما وجدت إعجابي بها قد اختلف، ولا انطباعاتي عنها قد اختلفت؛ وفي ذلك دليل على أنّ إعجابي بها لم يكن عن مجاملة.

أمّا وقد أُعجبتُ بها فقد لفت نظري في قراءتها أمورٌ منها:
أنّها من الناحية الموضوعية شكوى صارخة من الغُربة، ولكنها ليست غربة مكانية تنتهي بانتهاء عودة المغترب إلى وطنه، وإنما هي غربة روحية داخل الوطن. وأن يغترب الإنسان في رحم أمِّه التي أنجبته فذلك عذابٌ وجوديٌّ قاسٍ يُذكِّر بعذاب المعرّي حين قال في اللزوميات:
ما باختياريَ ميلادي ولا هرمي ... ولا حياتي، فهل لي بَعدُ تخييرُ؟!


وتواجهنا غربة القاصد منذ أوّل قصيدة في المجموعة إذ يفتتحها بقوله:


من أوّل البوحِ حتى مطلعِ الشِّعْرِ...أمشي ولا أحدٌ في صحبتي غيري


وعندما لوَّحوا بالغيم قلتُ لهم :إنّ الغيوم زهور الماء من نَهـري1


وإذاً، نجد الشاعر يخلق ألوهيته الخاصة به التي يفتقدها في الأرض مثلما يفتقدها في السماء، ولقد كان الجواهريُّ الخالد أقلَّ إحساساً بالغربة، وأكثر تواضعاً يوم قال:


حسبتُني وعُقاب الجوّ يصعـد بي ... إلى السماواتٍ محمولاً إلى وطني


وخلتُني والنجومُ الزُّهرُ طوع يدي...عنهنَّ فيما أصوغُ النيّراتِ غني


ولكن هذا هو شأن الشاعر حين يتفرَّد بموهبة لم يُرزَقها الآخرون. إنّه قاربٌ يجري على اليابسة:
أنا قاربٌ خلفَ المياه مؤجَّلٌ... ولي مقلةٌ روحيَّةُ القصد مُرهفه 2
أمّا سببُ هذه الغربة فهو ما يعتقده الوجوديون من أنّ اللغة أداةُ سوء تفاهم لا أداةُ تفاهم؛ ولا يعني هذا أنّ شاعرنا قد نسخ عنهم ما يعتقدون، أو نسج على منوالهم ولكنّه إحساسٌ داخليٌّ يُحسّه بين مجتمعه؛ فهو لا يجد بينه وبين مجتمعه أداة تفاهم فيقول:


أنا أصلُ هذا الكونِ ضاعتْ هويتي...لذلك كلُّ الناس في الكونِ مُبهمه3
ويقول:
من يسلخُ التفسير من أهوائنـا...حتى يُعيد لكلِّ صوتٍ مِـنبره4
بل إنّه ليودّ أنّه لو يموت فيشعر ـ وهو يرثي نفسَه ـ بالغربة عن أبيه، وأهله، وأخوته فيقول:
أخيراً كما أمّلـتُ ها أنا ميّتُ... فلا تصطرخْ بالشِّعر للموتِ ضجَّةُ


قريبٌ على الجدران نعيٌ لتنتهي...روايتك الكبرى، وتخبـو وتخفت


ستلقى أباً يبكي، وأهلاً، وأخوةً...فمن هم؟ ودنياك القديمةُ غربـةُ5


حتى لكأنّه يعاني من عُقدة في التعامل مع أهله إذيقول:


أنا منذ أوّل دمعةٍ...في غربتي عانيــتُ أهلا6


أمّا سبب هذه العقدة فهو أنّ أهله كانوا يُفضلون إخوته عليه:


كانوا صغاراً عندما .. حملوا الحجارةَ، كنتُ نخلا


ينسابُ من فيروز صوتي صبحُهم لأكـــن ظلا


... ولكم ظننتُ بأنّني وحدي أجيء فقيل: كـلا7


وأنّهم ـ أعني والديه ـ خذلوه في الإنجاب حتى لكأن عقدة أوديب تُطل برأسها من جديد في شعر القاصد.


وإذ ينتهي القاصد من حديث الغربة ينتهي برغبة خجول في الهجرة: هجرة لا تكاد تقول شيئاً:


حين انتبهتُ إلى أرضي مشتْ قدمي


وعندما لم أقف سمّيتها وطنــا8


ويطول حديث الغربة في شعر القاصد فدعوني أقول: إنّه ليس مهمّاً كثيراً ما يُقال في الشعر ولكن المهمّ أن كيف يقال؟


والقاصد ماهرٌ في كيفية القول فمن مهارته الانزياح اللغوي كمثل قوله:


فخذ من تراب النوحِ مقدار خيمةٍ ...لتمضي وتمشي خلف نعشك خيمةُ 9


وكمثل قوله:


كنّا عصافيراً وكان خـــرابةً...بشفاهنا عطراً، وكسرةَ زقزقــه 10


فالذي كنّا نعرفه أنّ الكسرة تكون للخبز، والكسر يكون للظلّ، ولم نكن نعرف قبل القاصد أن تكون للزقزقة كسرةٌ ككسرة الخبز، أفتكون زقزقة العصافير التي خنقها النظام الساقط معادلاً موضوعياً لكسرة الخبز؟ أظن أن ذلك كذلك، والقصيدة تؤيِّد ظنّي.


وهنالك صور مدهشة لا أعرف كيف أصفها كمثل قوله:


ما أبأس البستان مرَّت نخلةٌ ...ُبلى تجاهلها فطاحتْ مُثمره 11

ودع عنك حديث الغربة، وحديثَ أنّ هذه النخلة هي حسين القاصد نفسه التي تخشى أن تمر بالبستان فتطيح تجد بؤس البستان، وحبل النخلة، وخشيتها من أرضها ممّا تفرّد به شاعرنا، هذا وفعل " مرَّ " فيه غربة عن العراق ما بعدها غربة، فالنخلة ـ كما يقول النواب ـ " أرض عربية " ولولا التزامه بالوزن لقال: " أرض عراقية " فكيف تمر نخلة القاصد على تربة عراقية فتخاف أن تطيح؟
إنّه الزمن العراقي الرديء الذي رصد رداءته القاصد!
ومن مهارته في رسم الصورة أن يلجأ إلى ما يُعرف عند الرمزيين بتراسل الحواس كقوله:
طوينا حضارات العراق وما لنا سوى ضحكة العينين، أو دمعة الشفة 12
وأن يلجأ إلى التراث العربي فيقلب دلالاته كأن يقول
ولادتنا قدّ الفراتُ قميــصَه ...عليها وقد ناحتْ فأهدته مأتَمه

والدلالة القرآنية في سورة يوسف مقلوبة هنا، والقلب واضح ليست به حاجة إلى تبيان. ومثل ذلك قوله:


أخاف عليها إذا تستفيـق ... وليس نهارُ الكـــلام نهارا
ففي القول إشارة خفية مقلوبة إلى قول الشاعر:
فقلتُ الوعد سيّدتي فقالت: كلامُ الليل يمحوه النهارُ
والقول في أصله مثلٌ من أمثال المولّدين العباسيّين يقول:
كلامُ الليل مخلوطٌ بزُبدٍ... إذا أحماهُ حَرُّ الشمسِ ذابا
ومن هذا القلب قوله:
يغربلنا همّنـا المستفيق ... وكلُّ الهموم ليالٍ ملاحُ 14
وهذا على الضد من قول الشاعر القديم: " ولكنّ أيام السرور قصارُ ". على أنّه يلجأ أحياناً إلى التراث دون أن فيوميء إلى دلالتين كمثل قوله:
رجائي الوحيدً صلاةُ البقاء... فلا تقربوها وأنتم سكارى 15
إذ الصدر هو معكوس " صلاة الميت " أو " صلاة الجنازة " ، على حين أنّ العجز من قوله تعالى: ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ).
ومثلِ قوله:
أنا آخر الآتين
قبل تكرر الأسماء
مَن بعدي هم الأصداء
إذ هو من قول المتنبي:


أجزني إذا أُنشِدتَ شعراً فإنّني أنا الطائر المحكيّ والآخر الصدى
 ويطول الحديث ولا أريد له؛ لأنّني أريد أن أنتقل إلى ما في المجموعة من جرأة لغوية كمثل قــوله: " أطير لحيثك " 16، و: " يشدوك قمحاً " 17 وما إلى ذلك.
ولا أريد أن أطيل أكثر ممّا أطلتُ؛ لأنّني أريد أن أقول: إنّ قراءة " أهزوجة الليمون " متعة فنّية، وإن القاصد شاعرٌ شاعر.