.

في المكتبات جديد الشاعر حسين القاصد"القصيدة الإعلامية في الشعر العراقي الحديث" و النقد الثقافي ريادة وتنظير وتطبيق- العراق رائدا

.....

للحصول على اصدارات حسين القاصد ...جميع اصداراته في مكتبة الحنش  و  مكتبة  القاموسي في مكتبة المتنبي

الخميس، 13 أغسطس 2009

المعنى الشعري في يدي الثالثة

د: رحمن غركان


لم يعد عنوان مجموعة شعرية معينة مجرد اختيار غير مدروس بعناية ، لأن العنونة في النص الشعري جزء من بنيته الفنية ، ومن إيحائه الجمالي ، ومن مداه التعبيري في التأثير في المتلقي ، العنوان شكل أداءٍ فني يصله بالمتن نسغ من ماء تجربة شعرية مقصودة ، وإثرَ ذلك فالعنوان يضمر معنى شعرياً ، يفتح للتلقي نافذة على المتن ، فهو باب التجربة والنص الأول الذي تطلّ عبره ذائقة التلقي على آفاق المتن .
وفي المجموعة الثالثة للشاعر حسين القاصد الصادرة عن سلسلة ( نخيل عراقي ) 2009 ، احتفال بالعنوان بوصفه نصًّا يتصل مع نصوص المتن بأكثر من نسب ، فجملته إخبارية هي ( تفاحة في يدي الثالثة ) تتكون من ثلاثة عناصر دلالية ؛ الأول ( تفاحة ) اسم نكرة مقصود لمجازيته هنا ، ولإنزياحه عن معناه المباشر إلى معانٍ جديدة يريدها المتن الشعري لهذه المجموعة ، والثاني (في يدي) شبه جملة من جار ومجرور وضمير مضاف إلى المجرور ، وشبه الجملة كلّها ذات دلالة مكانية مقصودة لإنزياحها عن المعنى المباشر إلى معنى إيحائي هو التجربة الشعرية للشاعر المتضمنة بين الغلافين تحت عنوان ( تفاحة في يدي الثالثة ) ، والثالث هو الاسم الوارد صفة في العنوان أعني ( الثالثة ) وهي انزياح شعري عن الواقع ، فليس من يدٍ ثالثة ، إلاّ أن تذهب دلالة الباعث الآلي للتعبير عن معنى القصيدة على أنها ثالث يدٍ يكتب بها ويهشّ بها عن تجربته الشعرية و له فيها مآرب أخرى . والعدد هنا هو العنصر الأبرز في العنوان الذي أضفى على ( نصية العنوان) شعرية معناه . لأنّ ( تفاحة في يدي ) جملة يومية ولكن ( تفاحة في يدي الثالثة) جملة شعرية ، لأنه يوحي للمتلقي قبل القراءة ثم يصرّح له بعدها ، أن تجربته الشعرية هي أشبه ما تكون بيد ثالثة ؛ وهنا يتأوّل المتلقي ثنائية ( تفاحة / شعر ) لأن مجاز التفاحة يحيله ايحاء إلى أبينا آدم و ( أسطورة التفاحة في الجنة ) ليكون معنى الاغواء هو اللافت ( والشعراء يتَّبعهم الغاوون ) والإغواء يضمر معاني : المجاز والخيال والخسارة والإغراء والإغواء وغيرها مما يجيء في سياقها التعبيري . ومجاز التفاحة يحيله واقعياً إلى ( أسطورة نيوتن تحت شجرة التفاح ) ليكون معنى الجاذبية الأرضية هو الفاعل ، والجاذبية حين ترتفع من فيزياء نيوتن إلى شعرية الخيال تضمر معاني : الانزياح والاغراء والباعث على التأويل ، والإيحاء بالتأمّل وغيرها مما يقع في سياقها .
فالعنوان ( تفاحة في يدي الثالثة ) نص شعري خالص يتصدر متنه الخاص به ، ويضمر معناه الشعري اتصالاً بالمجموعة كلّها التي تنتمي كمجموعتيه السابقتين : ( حديقة الأجوبة ) و ( أهزوجة الليمون ) إلى قصيدة الشعر العربية التي اتضحت ملامح حضورها الفني والجمالي بعد منتصف التسعينات إلى اليوم ، ولعل أبرز من يكتب هذا الإتجاه عربياً من الجيل الذي أقصده ( أحمد بخيت ) من مصر . وعارف الساعدي وبسام صالح مهدي ومحمد البغدادي وغيرهم من العراق ، وهناك اسماء أخرى في سورية ولبنان وفلسطين وسائر الأقطار العربية الأخرى .
وما دمنا بصدد قراءة العنوان ، فمما يلفت النظر أن عناوين مجاميعه الثلاث تصدر عن مجازات نباتية حصراً ( حديقة / الليمون / تفاحة ) وهو ما يوحي للمتلقي بنزوع الانتساب الروحي للمكان ، والتوق الشعري للصدور عن حياته الخضراء صدوراً مجازياً باعثاً على التأويل ، وهو مايوحي أيضاً بحضور فاعلية العاطفة في التجليات الغنائية للخطاب الشعري لديه .
أما متن المجموعة فقد تضمن خمساً وثلاثين قصيدة توزعتها ثلاثة أشكال في الأداء الشعري ، أوّلها : شكل قصيدة الشعر الذي يصدر عن إعادة إبداع الهيكل العام والقالب الصياغي لصورة العمود الشعري العربي ذي الشطرين إعادة ابداعية ذات ثراء فني وأداء جمالي ، وتعمّق في استشراف المعنى الشعري على نحو استثنائي باعث على الادهاش ، يستميل تأويل المتلقي ويحاور تأمّلاته في شكل إبداع شعري يتعمق لكل حالة من الأداء الشعري كيفية الصياغة والاجراء ، تنأى عن التقليد وتبعث على المفاجأة ، عناية بابداع معنى شعري :
حضارة الناي كرسيٌّ كفرتُ به *** ورحتُ للقدح المكسورِ ممتحنا
فحين ألمسُ عريَ الماء أشربه *** وحين أخلو بليلي أسكبُ الوسنا
إنّ لغة المشابهة في الشطر الأول ، ولغة الاستعارة التمثيلية في الشطر الثاني من البيت الأول ثم لغة التجسيد في الشطر الأول ولغة التجسيم في الشطر الثاني من البيت الثاني ، كلّها لغات لإبداع معنى شعري عرفها القدماء وسيلة ، ويبدعها المعاصرون في ( قصيدة الشعر ) نصًّا باعثاً على التأويل ، تتأسس الوسيلة انطلاقاً منه . فقد استهلّ المجموعة بنصٍّ قصير من إيقاعِ البسيط أيضاً الذي بدا له حضور في هذه المجموعة وقد كتب نصّه على نظام الأسطر في تراكيب شعرية ، في تسعة أسطر مع أنها ثلاثة أبيات عنوانها ( قف ) .
قفْ أيها الوقت ، لاتعبر على وجعي *** لديَّ جرحٌ لذيذ ، هل يجيءُ معي
لديَّ من نخلتي ، طفلٌ يهزُّ بها *** جوعاً وقد طاحت الدّنيا ولم يقعِ
قف أيها الوقت ، إنّي صرتُ مقتنعا *** بأنني سوف أبقى غير مقتنعِ

وإنّ تجسيد الوقت ، وتجسيم الوجع والجرح ثم تجسيد ( الأنا ) ثم الإيحاء بالتمرد والتّساؤل المستمر والبحث عن أجوبة لاتنتهي ، كلُّ ذلك في شكلٍ من الأداء الشعري يستعيد هيئة أو قالباً مألوفاً ، لإبداع معنى شعري غير مألوف ، فيها يشبه بحث الشاعر عن نفسه في وسط يشبهه تماماً ، وهي مهمة صعبة غير أن شعرية جامحة تتوفّر عليها تجربة القاصد في الأداء الشعري هي ما أتاحت له أن يسير مع مجايليه محتفياً بخطوته لوحده ، وبمسيرته لجهته .. !!
أما الشكل الثاني فهو شكل قصيدة التفعيلة الذي أخذ فيه يشتغل على كيفية في انجاز معنى شعري لافت ، وهذا منحى ازدحمت التجارب على اتجاه كيفياته ، غير انه فيه لم يذهب بعيداً عن ملامح لغته الفنية في النزوع الايقاعي اللافت وكيفيات التصوير الشعري البعيد عن الرتابة والتقليدية ، وقد ترد قصيدة ( السهو نبتتنا ) انموذجاً من شعر التفيلة ، احتفل فيه باسلوب التدوير ، في بنية القصيدة المدوّرة :
( لم يلتقط قمر الحقيقة صورة للنزف مذ قطع اتجاهك طفلتين ولم تزل تهذي وينفلت انتباهك منهما ، الآن يسألك اتجاهك عن يد نذرت له سبابة !! هل تدري ان الصيف آخر رحلة للشمس ، انت كسرت طاولة ابتسامك مفعماً بالدمع ، كيف عدوت دربا للطريق فخططت عين الطريق على احتراقك واحة ..... ) .
التدوير هنا في نص التفعيلة هذا لم يقف عند تواصل الاسطر على وفق نظام الكتابة نثراً ، بل شكل اشتغال شعري في انتاج المعنى اقتضته طبيعة التعبير ، وكيفية انتظام المعاني الشعرية التي جاءت منسابة على ما يشبه النزوع الحكائي او القصصي ، فهو نمط في التفعيلة تستدعيه علائق التراكيب في انتاجها للمعاني الشعرية وليست مجرد صورة كتابية عابرة ، ولذلك لانقرؤه الا بوحي ذلك الانتظام المدور المتسلسل في انتاج المعاني او عرضها فنياً على هذا النحو .
أما الشكل الثالث فهو (قصيدة النثر ) التي كتبها على انموذجين ، الاول انموذج البيت او الجملة او الشريحة الشعرية ، كما في نص ( في الطريق الى البيت ) الذ ي تضمن ثلاث شرائح شعرية ، منها شريحة ( حلم ) التي تقول : ( حلمت باني احلم / حين استيقضتُ وجدت نفسي نائماً ) وهي جملة ذات معنى شعري في التعبير عن معنى النوم السلبي للناس حين يكونون مستيقضين في وسط من عين النهار !! والشريحة الثانية ( ابنتي في المدرسة ) التي تقول : ( ابنتي ( موج البحر ) رغم اجتيازها الابتدائية لم تذهب الى المدرسة ولم تأت منها طيلة عمرها لانها ولدت فيها ) وهي صياغة نثرية ذات معنى شعري في معنى ان الحياة معلمنا منذ صرخة الولادة !! واحسب ان هذا النمط من الاشتغال من اليد الاولى او الثانية ولكنه ليس من اليد الثالثة لانه ليس من التفاح في شيء الا في صياغة تخيّل المعنى فنياً !!! والانموذج الثاني من قصيدة النثر هو النص المفتوح النص الذي يعبر الاجناس منتمياً الى كيفيات فنية في ابداع معنى شعري ، كما في نص ( صعود ) الذي يجيء شكله البصري مكتوباً على صورة مثلث مقلوب رأسه في الاسفل وقاعدته تحت العنوان ( صعود ) اذ يقول في اوله / قاعدته : ( القعر هو بداية الطريق المخضر بالمعاناة نحو القمة / القمة هي نهاية مصير الخارج من قعره / الخروج هو بداية التغير المتأثر بالضوء / الضوء خط وهمي بين وجهتيك / .... ) ويتواصل النص حتى يصل الى رأس المثلث المقلوب في الاسطر الخمسة الاخيرة التي تجيء هكذا : (القمة بين حاجبيك / أتعود للقعر ، في يديك / الوهم / القمة ) فالنص بدأ بجملة ( القعر ) قاعدة للمثلث المقلوب في أعلى الصفحة ، وانتهى بـ ( القمة ) رأساً للمثلث المقلوب ...!!! على احتفال هذا الاشتغال بالشعرية بمعناها الفني في أداء المعنى الشعري إلاّ أنه احتفال مسبوق في نصوص النثر اللافتة في التراث و في الراهن ، واما هيكل المثلث فقد افاد منه ومن الاشكال الهندسية الاخرى وبعض الرسوم التشكيلية شعراء العصور الوسطى في الشعرية العربية التقليدية . وان اجتهاد الشاعر هنا على اتصافه بالفنية لم يرق بالنص الى مستوى الصدور عن اليد الثالثة في اكتشاف كيفيات ابداع المعنى الشعري ، وانجازه نصا استثنائياً . تلك اليد التي هيمنت على اكثر نصوص هذه المجموعة فجاءت ذات ثراء شعري غير تقليدي ، ثراء ابداعي باعث على الادهاش .
حسين القاصد في تفاحته المثمرة في يده الثالثة شاعر استثنائي ذو نمط من الاحساس بالشعرية وادائها ، متصف بالثراء الجمالي ، انجازاً على مستوى المعجم في حقوله الدلالية وانزياحاته الفنية ، واداء على مستوى الايقاع في عناصره الايقاعية المباشرة وغير المباشرة ، لسعيه إلى الاضافة الموسيقية عبر عناصر تعيد لغته بناءها ويبث فيها روح ازدهاره ، واجتهاداً على مستوى التراكيب يتيح للمعنى الشعري ان يصل لمتلقيه في صياغات مألوفة الشكل ثرية المعنى ، مدهشة الايحاء ، تكشف عن معنى ما ، ولكنها تكشف عن اسلوبية الشاعر في ذلك الاكتشاف ، انه يكشف عن الشيء في الوقت الذي يكشف فيه عن شعريته على وفق طرائق متعددة في الاجتهاد الشعري ، طرائق يبتكرها شكل الاداء ، ولا يصل اليها التقليديون إلا عبر الاداء بالشكل , واحسب ان اجتهاد القاصد في بناء تجربته الشعرية في سياق كل مجموعة ومنها هذه ( تفاحة في يدي الثالثة ) اجتهاد معني بدقائق الابداع الشعري ، وخصوصية الاداء الجمالي الذي حسب فيه الشاعر لكيفيات التناسب بين النصوص بدءاً من العنوان الى الختام حساب مقاسات شعرية غير تقليدية ، وهذا مرتكز الوعي الشعري في ابداع القصيدة ، انشغالاً ببصيرة الشكل وليس ببصره الظاهر وهو مايجد شعراء ( قصيدة الشعر ) انفسهم معنيين بها كثيراً لانها أعني بصيرة الشكل جزء من اضافاتهم للشعرية العربية المعاصرة .